روائع مختارة | روضة الدعاة | السيرة النبوية | الهجرة النبوية.. ميلاد واقعي للهوية الإسلامية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > روضة الدعاة > السيرة النبوية > الهجرة النبوية.. ميلاد واقعي للهوية الإسلامية


  الهجرة النبوية.. ميلاد واقعي للهوية الإسلامية
     عدد مرات المشاهدة: 2901        عدد مرات الإرسال: 0

في أجواءٍ مِن العتامة الفِكريَّة، والقتامَةِ السلوكيَّة، كانتْ جزيرةُ العَرَب قبلَ البعثة المحمديَّة تُعايش أحلك أيَّامها، جاهليَّة ضيِّقة، وعصبيَّة بغيضة، وحياة أشْبَه بحياة الغاب، يَظلم فيها القويُّ العربيد، ويَضيع فيها حقُّ المسكين والمرأة والوئيد، مُجون وفواحِش، وحروب طواحِن، وحياة يَسودُها الفرديةُ والأنانيَّة، وتغيب عن قافلةِ الحضارة وركْب الإنسانيَّة.

وفي هذا المستنقَع الجاهلي الآسِن، أنْعَم الله عليهم بالأنوار الربَّانيَّة، والبعثة النبويَّة، والشريعة المصطفويَّة، فماجتْ بجحافل الوثنيَّة الدنيا بأَسْرها، وأصابَهم مِن الدهش ما أطار عقولَها، وقالوها صراحةً: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5]، فشرعوا يُنافِحون عن آلهتِهم المزعومة، وعاداتهم المذمومة، ولا يَرقُبون في مؤمنٍ إلًّا ولا ذِمَّة، ولا قَرابةً ولا صُحْبة، حتى طالَ العهدُ بالمِحنة، وقضَى ربُّك أن تكونَ الهجرة؛ ليتميزَ معسكرُ الإيمان عن معسكرِ الخذلان، ويَصير للمسلمين كيانٌ متمايزٌ عن قُوى الطغيان.

ذكَر أهلُ الأخبار أنَّ المسلمين لم يكونوا يَعملون بالتاريخِ السنوي في أوَّل الأمْر، حتَّى كانتْ خِلافة عمر بن الخطَّاب، فإنَّه جمَع الناس فاستشارهم، فقال بعضُهم: أرِّخوا كما تؤرِّخ الفُرسُ بملوكها، كلَّما هلَك ملِك أرَّخوا بولايةِ مَن بعدَه، فَكرِه الصحابةُ هذا الرأي، وقال آخَرون: أرِّخوا بتاريخِ الرُّوم، فَكِرهوا ذلك أيضًا، فقال بعضُهم: أرِّخوا مِن مولدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقال آخَرون: بل مِن مبعثِه، وقال آخَرون: بل مِن مهاجرِه، فقال عمرُ رضي الله عنه وكان ملهمًا-: (الهِجرةُ فرَّقتْ بيْن الحقِّ والباطِل، فأرِّخوا بها).

إنَّ الوطنَ هو أولُ احتياجات الهُويَّة الإسلاميَّة؛ لكي تنموَ فيه وتترعرع، وتَجِد فيه الرِّجالَ الذين يحملونها على عواتقِهم وينصرونها ويُعزِّرونها؛ لذلك كان لا بدَّ مِن مجافاةِ مُعسكَر الكُفران، وإنْ غلتِ الأوطان، وثارتِ الذِّكريات والأشجان، خاصَّة وأنَّ تحقيقَ الغايات لا بدَّ له مِن مجموعةٍ منظَّمة تعمَل دون عوائقِ الاضطهادِ، والتنكيل والتعذيب، فالهجرة كانتْ بمنزلة تحرٍّ واختيارٍ للتربة الخَصبة التي ستنمو فيها شجرةُ الإسلام باسقةً ناضرة.

ولأهميَّة المكان الملائِم كان بحثُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن هذه البِيئة الطاهرةِ بحثًا حثيثًا، وبذلَ مِن أجلها جهدًا جهيدًا، بل لاقَى في سبيلها ضيمًا فريدًا، كانت البداية مكَّة، فلمَّا استعصتْ عليه بكُفر صناديدِها، ذهَب إلى الطائف، لكنَّها أبَتْ بجحودها، فكانتْ طَيْبةُ الطيِّبة موئلَ الدِّين، وكنفَ دعوةِ ربِّ العالمين.

ولذلك بعدَ الهِجرة النبويَّة المشرَّفة؛ صارتِ الهجرةُ واجبةً مِن مكَّة إلى المدينة في عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ومِنْ كلِّ مكان لا يقدر المسلم فيه أن يُقيمَ شعائر دِينه، وكانتِ الهجرة عملًا صالحًا يتفاضَل الناس بها؛ قال صلى الله عليه وسلم: «الإسلام يهدِم ما قبْلَه، والهجرةُ تهدِم ما قبلَها»[1].

وبعدَ فتْح مكَّة نُسِخَتِ الهجرة منها، ولكن بقِي على المسلمِ وجوبُ الهجرةِ مِن البلد الذي لا يَقدِر أن يُقيم فيه شعائرَ دِينه إلى البلدِ الذي يقدر أن يَعبُد الله فيه بحريَّة، وفي الحديث: «لا تَنقطِعُ الهجرةُ حتى تنقطعَ التوبةُ، ولا تنقطعُ التوبةُ حتى تَطلُعَ الشمسُ مِن مغربِها»[2].

وبعدَ الهِجرة صارتْ الهويَّة الإسلاميَّة في المدينة المنوَّرة موئلًا للقاصدين، وعَلَمًا على هذا الدِّين، وموحِّدة لشتاتِ المؤمنين، وغاية لكلِّ الموحِّدين، لقد ذابتْ هُويَّة القبيلة، وهُويَّة المكان، وهُويَّة الغِنى والسُّؤدد، وسائِر الهوياتِ الدُّنيويَّة، وسادتِ الشريعة الربَّانيَّة، فصبغتِ المسلمين بخيرِ صِبغة: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ} [البقرة: 138].

صارت الهوية الإسلامية مناطَ الولاء والبَراء، ومُرتِّبة الأولويات، ومُحرِّكة الجماعات، العقيدةُ الإسلاميَّة الصافية ذِروة سنامِها، واللُّغةُ العربية وعاء فِكرِها، وتراثُ الأمة نبراس تقدُّمِها وعزِّها، وهذا الذي يُقرِّره المنظِّرون لأمر الهوية، حيث يقولون: أركان الهوية ثلاثة (العقيدة، والتاريخ، واللُّغة)، والهويَّة الإسلامية لها كلُّ مقوِّماتِ الهُوية الذاتية المستقلَّة، بحيث تَستغني تمامًا عن أي (لقاح) أجْنبي عنها، فهي هُويَّة خَصْبة، تنبثِق عن عقيدةٍ صحيحة، وأصول ثابِتة رَصينة، تَجمَع وتوحِّد تحتَ لوائها جميعَ المنتمين إليها، وتَملِك رصيدًا تاريخيًّا عملاقًا لا تَملِكه أمةٌ مِن الأمم، وتَتكلَّم لغةً عربيةً واحدةً، وتشغل بقعةً جغرافيةً متَّصلة ومتشابكة وممتدَّة، وتحيَا لهدفٍ واحد، هو إعلاءُ كلمةِ الله، وتَعبيدُ العبادِ لربِّهم، وتحريرُهم مِن عبودية الأنداد.

قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]، {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125].

الهوية الإسلاميَّة هي انتماءٌ إلى الله- عزَّ وجلَّ- وإلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وإلى عبادِ الله الصالحين وأوليائِه المتَّقين، أيْنَما كانوا ومتَى كانوا، بغضِّ النظر عن جِنسهم أو لَونِهم؛ قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 55- 56].

يقول المؤرِّخُ اليهوديُّ (برنارد لويس): الليبراليَّة، والفاشيَّة، والوطنيَّة، والقوميَّة، والشيوعيَّة، والاشتراكيَّة- كلُّها أوروبية الأصلِ مهما أَقْلمَهَا وعدَّلها أتباعٌ في الشرق الأوسط، والمنظَّماتُ الإسلامية هي الوحيدةُ التي تَنبعُ مِن تراب المنطقة.

الهويَّة الإسلاميَّة هي المقياسُ والميزان الذي يضبط العلاقةَ بين المؤمنين وغيرهم، ومِن هَدي القرآن للتي هي أقوم: هديُه إلى أنَّ الرابطة التي يجب أن يُعتقدَ أنَّها هي التي تربط بين أفرادِ المجتمع، وأنْ يُنادَى بالارتباط بها دون غيرِها، إنَّما هي دِينُ الإسلام؛ لأنَّه هو الذي يربط بيْن أفرادِ المجتمع، حتى يصيرَ- بقوَّةِ تلك الرابطة- جميعُ المجتمع الإسلامي كأنَّه جسدٌ واحد، فربْط الإسلامِ لك بأخيك كربْط يدِك بمِعْصَمِك، ورِجلِك بساقِك، كما جاء في الحديثِ عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ مَثَل المؤمنين في تَراحُمِهم وتعاطُفهم وتوادِّهم كمَثَل الجَسدِ الواحِد؛ إذا اشتَكَى منه عضوٌ، تَداعَى له سائرُ الجَسدِ بالسَّهَر والحمَّى».

ولذلك يَكثُر في القرآن العظيم إطلاقُ النَّفْس وإرادة الأخِ؛ تَنبيهًا على أنَّ رابطةَ الإسلام تجعل أخَا المسلم كنفسِه، كقوله تعالى: {وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} [البقرة: 84]؛ أي: لا تُخرجون إخوانَكم، وقوله: {لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور: 12]؛ أي: بإخوانهم، وقوله: {وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [الحجرات: 11]؛ أي: إخوانكم، وقوله: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 188]؛ أي: لا يأكُل أحدُكم مالَ أخيه، إلى غيرِ ذلك مِن الآيات؛ ولذلك ثبَت في الصحيحِ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «لا يُؤمِنُ أحدُكم حتى يحبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفْسِه».

ومِن الآياتِ الدالَّة على أنَّ الرابطةَ الحقيقيَّة هي الدِّين، وأنَّ تلك الرابطةَ تتلاشَى معها جميعُ الروابط النَّسَبيَّة والعصبيَّة- قوله تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22]؛ إذ لا رابطةَ نَسبيَّة أقربُ مِن رابطةِ الآباءِ والأبناء والإخوانِ والعشائِر.

وقوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71]، وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]، وقوله: {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} الآية [آل عمران:103]، إلى غيرِ ذلك مِن الآيات.

فهذه الآياتُ وأمثالُها تدلُّ على أنَّ النِّداءَ برابطةٍ أخرى غيرِ الإسلام كالعصبيَّة المعروفة بالقوميَّة- لا يجوز، ولا شكَّ أنَّه ممنوعٌ بإجماعِ المسلمين.

ومِن أصرحِ الأدلَّة في ذلك: ما رواه البخاريُّ عن جابرِ بنِ عبدِالله- رضي الله عنهما- يقول: كنَّا في غزاةٍ، فكَسَعَ رجلٌ مِن المهاجرين رَجلًا مِن الأنصار، فقال الأنصاريُّ: يا للأنصار!! وقال المهاجريُّ: يا للمهاجرين!! فسمَّعها اللهُ رسولَه، قال: «ما هذا؟»، فقالوا: كَسَعَ رجلٌ مِن المهاجرين رَجلًا مِن الأنصار، فقال الأنصاريُّ: يا للأنصار، وقال المهاجريُّ: يا للمهاجِرين، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «دَعُوها؛ فإنَّها مُنتِنةٌ...» الحديث.

فقولُ هذا الأنصاريِّ: يا للأنصار، وهذا المهاجريِّ: يا للمهاجرين، هو النِّداءُ بالقوميَّة العصبيَّة بعينه، وقول النَّبي صلى الله عليه وسلم: «دَعُوها؛ فإنَّها مُنتِنةٌ» يَقتضي وجوبَ ترْك النِّداء بها؛ لأنَّ قوله «دَعُوها» أمرٌ صريحٌ بتركها، والأمرُ المطلَق يَقتضي الوجوبَ على التحقيقِ- كما تَقرَّر في الأصول[3].

لقد كانتِ الهجرةُ النبويَّة حقًّا ميلادًا تاريخيًّا للهويَّة الإسلاميَّة، وعَلمًا على بداية ظهورِها في سماء البشرية، وكانتْ الهجرة فرقانًا، فرَّقتْ بين الأباطيل والأساطير وبيْن عقيدة ربِّ العالمين، وميَّزتِ المؤمنين بكيانِهم الطاهِر عن أدرانِ الشركيَّات والوثنيَّات، فصلوات ربِّي وسلامُه على صاحبِ الهجرة النبويَّة، وعلى آله وصحبه أجمعين، صلاةً دائمةً إلى يومِ الدِّين.

=================

[1] أخرجه مسلم.

[2] أخرجَه أحمد (4/99)، وأبو داود في الجهاد (2479).

[3] أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن لمحمد الأمين المختار الشنقيطي (3/ 42- 43) بتصرف.

الكاتب: د. خالد النجار.

المصدر: موقع الألوكة.